رسالة من غيور على الشعوب العربية وخاصة الفلسطيني الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم- ومَن والاه، وبعد..
فإنَّ تطوراتِ الأحداثِ على الحدودِ المصريةِ الفلسطينيةِ خلال الأيامِ الماضية نتيجة لمعاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة جعلت البعض يتصور أن قضيةَ فلسطين هي قضية إنسانية فقط، وأنَّ واجبَ الحكوماتِ العربيةِ والشعوب هو تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، وتقديم كل إغاثةٍ ممكنةٍ لإعاشته، ومد يد العون والإغاثة لشعب منكوب.
وإننا إذْ نُحيي كافةَ الشعوبِ العربيةِ والإسلاميةِ التي سارعتْ بتقديمِ كلِّ عونٍ ممكنٍ خلال أيامٍ معدودةٍ، ونطالبهم بالاستمرار في دعمِ صمود هؤلاء الأبطال المرابطين في أرضِ الرباط، إلا أننا نُذكِّر الجميعَ أننا لا نساعد منكوبين وحسب، وهم فعلاً منكوبون، ولكننا نجاهد معهم بأموالنا حيث يجاهدون بأنفسهم، جهاد مستمر ومتواصل في سبيلِ تحريرِ الأرض واستعادة المقدسات الإسلامية والمسيحية وطرد المغتصبين الاستيطانيين من أرضٍ استولوا عليها بالقهرِ وقوة السلاح واقتلعوا أهلها الأصليين، وشردوهم في آفاقِ البلاد وما زالوا يُواصلون عدوانهم الآثم ليلَ نهارَ دون كللٍ، وتساعدهم في ذلك القوى الدولية، الولاياتُ المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، بل نجحوا في إسكاتِ الأصواتِ الدولية الأخرى التي ناصرت الحقَّ الفلسطيني العربي كالصين والهند وروسيا، بل تمادوا إلى أكثر من ذلك فأصبحت هناك أصوات عربية حكومية وإعلامية واقتصادية في أكثر من بلدٍ عربي، خاصةً دول الطوق المعروفة كمصر والأردن ولبنان تتبنى وجهة نظر استسلامية خانعة خاضعة للضغوط الصهيونية والإغراءات الأمريكية؛ مما يدل على أن العرب دخلوا بالفعل عصر الهيمنة الصهيونية.
إنَّ قضيةَ الشعب الفلسطيني ليست مجرَّد قضية شعبٍ جائع؛ وهو بالفعل يتم تجويعه عن عمدٍ وإصرارٍ لقتلِ رُوح المقاومة فيه، ولكنها قضية شعب مقاوم مجاهد يصرُّ على استردادِ الأرض وإقامة دولته المستقلة وتحرير كامل وطنه وترابه، شعب يرابط على أرض الرباط، يرفض الخروج من وطنه، ويقف ضد كل القوى الدولية التي تآمرت على قضيته العادلة.
إنَّ الانقسامَ الحادث اليوم في القياداتِ الفلسطينية ليس، كما يُصوِّره البعض عن عمدٍ، صراعًا على سلطة لا تملك من أمرها شيئًا، وليس نزاعًا على مغانم، فالمغانم- إن وُجدت فهي رشاوى- تتدفق على فريقٍ واحدٍ منذ تمَّ توقيع اتفاق أوسلو؛ مناصبَ ومظاهرَ وأموالاً وسجاجيدَ حمرَ تُفرش في المطارات وعناقًا يتلوه عناق، وترحيبًا في البيتِ الأبيض وغيره من قصور الرئاسة الأوروبية، بينما كان نصيب الفريق المقاوم الرافض للتسويات الظالمة القتل والقصف والترويع والحصار حتى سقط منه مئاتُ الشهداء من القادةِ والأبطالِ والشباب والنساء والأطفال.
إنَّ الخلافَ حول قضية فلسطين يتعلق برؤيتنا جميعًا للأمن القومي العربي، فالشعب الفلسطيني وقياداته المقاومة إنما تدافع عن أمن الأمة العربية جميعًا وحقها في الكرامةِ والعزةِ، وتتصدى للخطر الأصلي الذي يُهدد الأمة العربية منذ قرنٍ من الزمان، خطر العدو الصهيوني الذي تآمرت القوى الدولية جميعًا حتى زرعته كيانًا استيطانيًّا عنصريًّا في أرضِ فلسطين؛ أرض الرسالات السماوية، التي وصفها الرسول العظيم- صلى الله عليه وسلم- بأرض الرباط، وأن أهلها في رباطٍ إلى يومِ القيامة.
هل هذه هي الشرعية الدولية الظالمة التي يتم مطالبة المقاومين بالاستسلام لها؟!
هل هذا هو المطلب الرئيسي لإجراءِ مصالحة وطنية فلسطينية؟!!
إن حقيقةَ الخلاف داخل الصف الفلسطيني أنها خلاف بين مشروع الاستسلام والخضوع يتبناه فريقٌ يتعاملون مع القضية المركزية للأمة العربية على أنها مساومات وتعويضات كأنها صفقة تجارية.
وبين مشروع للمقاومة يتعامل مع القضية على أنها قضية أمن قومي عربي للتصدي لأكبر الأخطار التي هددت وتهدد أمن واستقرار المنطقة كلها.
ويتناسى المساومون والخانعون أن الاستسلام لبعض أطماع العدو الصهيوني يعني بالتالي الاستسلام لكل ما يريده، وهذا ما وضح للجميع من إصرار العدو الصهيوني على أن يقر الجميع- كما ساندته أمريكا الآن- بيهودية الدولة الصهيونية؛ مما يعني طرد السكان العرب، مسلمين ومسيحيين من أرض 1948م بعد أن تمَّ طرد آبائهم وأجدادهم وأقاربهم منها منذ ستين عامًا بالمذابح والجرائم ضد الإنسانية.
إنَّ الواجبَ الأول اليوم على الحكومات العربية والشعوب جميعًا هو دعم صمود الشعب البطل المرابط الذي يرفض مغادرة وطنه ويصرُّ على الشهادةِ على أرض هذا الوطن فداءً للأمة جميعًا، ويصرُّ على عودةِ جميع الفلسطينيين إلى وطنهم مهما طال المدى واستطال الزمن.
إنَّ كلَّ محاولاتِ خداع الأمة العربية بأفكارٍ أخرى مثل الخطر الإيراني أو خطر الإرهاب لم ولن تُفلح في صرف الأنظار عن الخطر الحقيقي الذي يهدد أمن واستقرار العالم العربي منذ التخطيط لقيامه وحتى الآن وسيظل هو مصدر الخطر الحالي الجاثم على صدورنا.
وإنَّ خنقَ الحريات في بلادنا وإهدار الطاقات ونزيف الثروات، إنما يصبُّ لصالح بقاءِ هذا الكيان العنصري.
على الجميع أن يُدرك اليوم أن أمن الوطن في مصر والأمة العربية جميعًا في خطرٍ حقيقي، وأن استقرار المنطقة لن يتحقق إلا بدحر هذا العدو الغاصب وتحجيم أطماعه ووضع خطة طويلة المدى لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني ولن يتم ذلك إلا عبر خطة إصلاحٍ شاملٍ تبدأ باستعادة الحريات العامة للشعوب، وأن تكون هناك مصالحة بين الحكومات والشعوب، وأن تمثل الحكومات شعوبها عبر انتخابات حرة سليمة في إطار نظامٍ ديمقراطي سليم، ومصر هي في المقدمة التي عليها أن تُدرك أن عدوها الحقيقي هو العدو الصهيوني، وأن دعم مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني هو خط الدفاع الأول عن الأمن القومي المصري، وأن حماية الحدود المصرية ليست عند مجرَّد خط موجود في رفح، ولكنه يمتد إلى أعماق فلسطين، ولن ننسى أن جيوش مصر قاتلت مرارًا على أرض فلسطين، وفي الشام دفاعًا عن مصر وليس عن فلسطين.
إنَّ ما حدث على الحدود المصرية مؤخرًا من اعتداءٍ آثمٍ على الجنود المصريين لهو أمرٌ مؤسفٌ ومحزن ومدان أيًّا كان مصدره، وإنَّ السببَ الرئيسي فيه هو حالة الاحتقان الحادة عند الحدود، والذي يتحمَّل مسئوليته الكبرى هو الاحتلال الغاشم العنصري، ويجب على الإخوةِ الفلسطينيين أن يمتنعوا عن أي تحرشاتٍ بالجنود المصريين لقطع الطريق على المغرضين، وتقديرًا للجهودِ المصريةِ الراميةِ إلى رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني.
على مصر اليوم وبالتنسيق مع الشعب الفلسطيني وقياداته أن تُساند الحقَّ الفلسطيني، وأن تحمي أمتها وأمن الأمة العربية كلها.
وعلى الشعوب العربية جميعًا أن تُواصل دعم صمود هذا الشعب المرابط المجاهد، وعلى مصر أن تُنفِّذ ما وعدت به على لسانِ السيد الرئيس بعدم تجويع الشعب الفلسطيني وعدم المشاركة في حصار قطاع غزة؛ وذلك بترتيبٍ جيدٍ لفتح معبر رفح ليكون الرئةَ التي يتنفس منها الشعب المرابط دون أي إعاقةٍ أو تدخل أطرافٍ تُريد خنق وحصار الفلسطينيين، وعلى مصر أن ترتب لمدِّ غزةَ بالغازِ والكهرباءِ والضرورياتِ لاستمرار حياةِ هذا الشعب المناضل.
وصَدَقَ الله العظيم: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ (النساء: من الآية 75)، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.